وصف رسول الله للأنصار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار في كلام جرى: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع " . الفزع في كلام العرب على وجهين: أحدهما ما تستعمله العامة تريد به الذعر، و الآخر الاستنجاد والاستصراخ، من ذلك قول سلامة بن جندل :
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
يقول: إذا أتانا مستغيثٌ كانت إغاثته الجد في نصرته،يقال: قرع لذلك الأمر ظنبوبه إذا جد فيه ولم يفتر، ويشتق من هذا المعنى أن يقع " فزع " في معنى " أغاث " كما قال الكلحبة اليربوعي: " قال أبو الحسن: الكلحبة لقبه، واسمه هبيرة، وهو من بني عرين بن يربوع، والنسب إليه عريني، وكثير من الناس يقول: عرني ولا يدري، وعرينة من اليمن: قال جرير يهجو عرين بن يربوع:
عرين من عرينة ليس منا ... برئت إلى عرينة من عرين
فقلت لكأسٍ ألجميها فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا
يقول: لأغيث. وكأس: اسم جارية، وإنما أمرها بإلجام فرسه ليغيث. والظنبوب: مقدم الساق.
حديث " ألا أخبركم بأحبكم إلي "
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً،الذين يألفون و يؤلفون،ألا أخبركم بأبغضكم إلي و أبعدكم مني مجالس يوم القيامة " الثرثارون المتفيهقون " .
قوله صلى الله عليه وسلم " الموطأون أكنافاً " مثل، وحقيقته أن التوطئة هي التذليل و التمهيد، يقال: دابة وطيء، يا فتى، وهو الذي لا يحرك راكبه في مسيره، وفراش وطيء إذا كان وثيراً لا يؤذي جنب النائم عليه، فأراد القائل بقوله: " موطأ " الأكناف " أن ناحيته يتمكن فيها صاحبها غير مؤذى، ولا ناب به موضعه.
قال أبو العباس: حدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: حدثني الأصمعي قال: قيل لأعرابي وهو المنتجع بن نبهان ما السميدع فقال " السيد الموطأ الأكناف.
وتأويل الأكناف الجوانب، يقال: في المثل: فلان في كنف فلان، كما فلان في ظل فلان، و في ذرى فلان، وفي ناحية فلان، وفي حيز فلان.
وقوله صلى الله عليه و سلم: " الثرثارون " يعني الذين يكثرون الكلام تكلفاً و تجاوزاً، و خروجاً عن الحق. وأصل هذه اللفظة من العين الواسعة من عيون الماء، يقال: عينٌ ثرثارةٌ. و كان يقال لنهرٍ بعينه: الثرثار، وإنما سمي به لكثرة مائه، قال الأخطل:
لعمري لقد لاقت سليمٌ و عامرٌ ... على جانب الثرثار راغية البكر
قوله: " راغية البكر " أراد أن بكر ثمود رغا فيهم فأهلكوا،فضربته العرب مثلاً، و أكثرت فيه،قال علقمة بن عبدة الفحل:
رغا فوقهم سقب السماء فداحضٌ ... بشكته لم يستلب و سليب
قال أبو الحسن: الداحض: الساقط والداحض أيضاٌ: الزا لق.
وكذلك إذا لم تضعف الثاء فقلت: عينٌ ثرةٌ، فإنما معناها غزيرة واسعة، قال عنترة:
جادت عليها كل عين ثرةٍ ... فتركن كل حديقةٍ كالدرهم
قال أبو العباس: وليست الثرة عند النحويين البصريين من لفظة الثرثارة، ولكنها في معناها.
وقوله صلى الله عليه وسلم " المتفيهقون " إنما هو بمنزلة قوله: " الثرثارون " توكيد له، ومتفيهق متفيعل، من قولهم: فهق الغدير يفهق إذا امتلأ ماءٌ فلم يكن فيه موضع مزيد، كما قال الأعشى:
نفى الذم عن رهط المحلق جفنةٌ ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
كذا ينشده أهل البصرة، و تأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته لأنه حضري فلا يعرف مواقع الماء ولا محاله.